حول حوار «السيسى»
قبل ٢٥٠٠ سنة، سُئِلَ كونفوشيوس: «كيف نُصلِح العالمَ الذى نعيشُ فيه؟»، فأجاب: «إصلاحُ العالم سهلٌ، إذا صَلُحَت اللغةُ التى يستخدمها الناس». فقال السائلُ: «وما معنى ذلك؟»، فقال الفيلسوف الصينىّ: «للأسف، اللغةُ السائدة بين الناس الآن ليست صائبة؛ لأن ما يُقال، عادةً، لا يحمل المعنى المقصود. وإذا كان ما يُقال لا يحمل المعنى المقصود، ضاعتِ الحقيقةُ. وإذا ضاعت الحقيقةُ، فسدتِ الأخلاقُ والفنون. وإذا فسدت الأخلاقُ والفنون، ضَلّتِ العدالةُ. وإذا ضَلّتِ العدالةُ، احتار الناسُ وتاهوا. وإذا احتار الناس أو تاهوا، عجزوا عن الفِعل. وإن عجزوا عن الفِعل، توقف العالمُ، وتدهورت أحواله!».
هكذا يمكن لـ«كلمة» خطأ، لا تحمل المعنى المقصود، أن تشعل حروباً ضروساً طاحنات، وأن تهدم مجتمعات أو تضيِّع أمماً، أو أن تتسبب فى مقتل إنسان. بل يمكن لحرف خاطئ واحد أن يغيِّر المعنى المقصود. بل بوسع علامة تنضيد (تشكيل) صغيرة فوق حرف، أو علامة ترقيم غير دقيقة، أن تعكس المعنى، وتضلّل المستمعَ، وتقطع سبل التواصل بين متحاورين.
والأمثلة على خطورة التدقيق اللغوى وما يتبعه من اختلاف المعنى، كثيرةٌ؛ أذكر منها:
«إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» (فاطر: ٢٨). تلك الآية الكريمة التى قرأها «المعزولُ» خطأ؛ فعكس المعنى؛ إذ جعل لفظَ الجلالة (اللهَ) مرفوعاً (لا منصوباً) كأنه فاعلٌ، وكلمة «العلماءُ» منصوبة (لا مرفوعة) كأنها مفعولٌ به، فكأنما اللهُ تعالى هو الذى يخشى العلماءَ (!)، والعكس هو الصحيح؛ حاشاه وعلا عن الخوف من بشر.
كذلك المثال الإنجليزى الذى تعلمناه فى المدرسة للتدليل على أهمية علامات الترقيم، فى الجملتين التاليتين:
وبوسعنا أن نرى البون الشاسع فى المعنى بين الجملتين رغم تطابق الكلمات. الأولى تخسف بالمرأة للحضيض، والثانية تعلو بها إلى عنان السماء. إنها علامات الترقيم التى نهملها فى ثقافتنا العربية، رغم أنها ضوابطُ شديدة الخطورة؛ تعوّض الكلماتِ المكتوبة عن الطاقة المفقودة التى تمتلكها الكلمات المنطوقة المباشرة. علامات الترقيم تدلّنا على: متى نسترسل، متى نصمت قليلاً، متى نستأنف الكلام، متى نتعجب، متى نستفهم، متى نعلل، متى نقدم تعريفاً لمصطلح أو فكرة، ومتى ننهى كلامَنا.
كانت «اللغة» الهابطة الركيكة إحدى مشكلاتى مع «المعزول»، من بين عشرات أسباب النفور الفكرية والسياسية الأخرى. وكانت اللغةُ الرفيعة أحد دواعى فخرى بالرئيس المستشار عدلى منصور، الذى يعرف كيف يزن كلماته بميزان الذهب؛ فلا يلحن فى نحو أو صرف، ولا يسفُّ فى قول. فعالج وطبّب آذانَنا التى ضربها العطبُ مع ركاكات «مرسى» وهرتلاته المخجلة التى لا تليق بحاكم مصر. من هنا استبشرتُ خيراً بحوار المرشح الرئاسى عبدالفتاح السيسى الذى يشير إلى رجل ذكى حصيف واثق يعرف كيف يختار كلماته بدقة، ويفاضل بين المعانى والمفردات. وتلك ألف باء رئيس دولة يملك ناصية البيان، لكيلا تنقطع الجسورُ الحوارية الشفافة بينه وبين شعبه ومستشاريه وحكومته، وكذلك بين مصرَ والدول الأخرى؛ لأن حاكم الدولة هو لسانُها.
يبقى أن تتضح ملامحُ برنامج المشير السياسية والاقتصادية والفكرية، وفتح ملفات الأمن والتعليم والطاقة والموازنة والحريات وغيرها، مما سيحدد سمات مستقبل مصر المقبل، فى عهد المشير السيسى، أو منافسه حمدين صباحى.